فلْيَتَنعَّموا ولْيَفرَحوا في هذهِ الدُّنيا، ولْيَضحَكوا ما شاؤوا في مدَّتِها القَصيرة، ولْيَذوقوا النارَ والهَوانَ في الدَّارِ الآخِرَة، ولْيَبكوا فيها بُكاءً دائماً لا يَنقَطِع، جزاءَ أعمالِهمُ السيِّئة، ومَعاصِيهمُ المُتكرِّرة، وإصرارِهم على مُخالفةِ أوامرِ اللهِ سُبحانه.
ولا تُصَلِّ على أحدٍ ماتَ مِنَ المنافِقينَ أبداً، ولا تَقُمْ على قَبرهِ لتَتولَّى دَفنَه، أو َتستَغفِرَ لهُ وتدعوَ له، لأنَّهم كفَروا باللهِ وكذَّبوا رسُولَه، واستمرُّوا على كُفرِهمْ حتَّى ماتُوا وهمْ كذلك. والكافرُ لا يُصلَّى عليه.
وكانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ صلَّى على عبدِاللهِ بنِ أُبَيٍّ رأسِ المنافِقين، وذَكرَ أنَّهُ بينَ خِيْرَتَيْن؛ لقولهِ تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] فنزلتِ الآيَة، فما صلَّى بعدَها على مُنافِق، ولا قامَ على قَبرِه.
فلا يَرُقْكَ شَيءٌ مِنْ أموالِهم ولا أولادِهم، ولا تَستَحسِنْ ذلكَ منهم، فإنَّما هوَ استِدراجٌ منَ اللهِ لهم، ليكونَ ذلكَ كلُّه وَبالاً عليهم، وعِقاباً لهمْ في الدُّنيا، مِنْ تَعَبٍ في جَمعِه، وكَدٍّ في تَحصِيله، ونَفقةٍ منهُ للزَّكاةِ والجِهادِ دونَ أنْ يُثابوا عليه، ومَقتَلِ أولادٍ لهمْ في الغَزو، وهمْ لا يَعتَقِدونَ استِشهادَهمْ ولا احتِسابَهمْ واللِّقاءَ بهمْ في اليَومِ الآخِر، فيَكونُ كلُّ ذلكَ حَسرَةً عليهم، وتَعذيباً نفسيّاً لهم، وأشدَّ في عُقوبتِهم، ولتخَرُجَ أرواحُهم ويموتُوا على كُفرِهم(52).
(52) {وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ}: يعني وتخرجَ أنفسُهم، فيموتوا على كفرهم بالله، وجحودِهم نبوَّةَ نبيِّ الله محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم. (الطبري). أصلُ الزهوق: خروجُ الشيءِ بصعوبة. أي: فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتعِ عن النظرِ في العاقبة، فيكونُ ذلك لهم نقمةً لا نعمة. (روح البيان). الزهوق: الخروجُ بشدَّةٍ وضيق، وقد شاعَ ذكرهُ في خروجِ الروحِ من الجسد.
رَضُوا بأنْ يَبْقُوا معَ الخالِفينَ منَ الصِّبيانِ والعاجِزينَ والنِّساءِ بعدَ خُروجِ الجَيش. وختمَ اللهُ على قُلوبِهمْ بسبَبِ عَدمِ خُروجِهمْ معَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فهمْ لا يَفهمَونَ ما يَنفعُهمْ ولا ما يَضرُّهمْ في دُنياهُمْ وآخِرَتِهم.
أمّا الرسُولُ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وصَحابتهُ المؤمِنونَ معَه، فقدْ أنْفَقوا ما يَقْدِرونَ عليهِ منْ أموالٍ في الجِهاد، وبَذلوا أنفُسَهمْ في سَبيلِ الله، ولهمْ على ذلكَ خَيرُ الجَزاء، مِنْ منافعَ ونِعَمٍ كثيرةٍ تُسْعِدُ القَلبَ وتُبْهِجُ النَّفس. وأولئكَ همُ الفائزونَ بالجنّات، المخلَّدونَ فيها.
ليسَ هناكَ ذَنْبٌ في التخلُّفِ عنِ الجِهاد: على الضُّعفاءِ العاجِزينَ عنِ القِتال، وعلى المرضَى، مُزمِناً كانَ مَرضُهم أو غيرَ مُزمِن، وعلى الفُقَراءِ الذينَ لا يَجدونَ ما يَتجهَّزونَ بهِ للحَرب.
ليسَ على هؤلاءِ إثمٌ في التخلُّفِ عنِ الغَزو، إذا نَصَحوا في حالِ قُعودِهم، فكانوا أهلَ إيمانٍ وطاعَة، وعَهدٍ ومُؤازرة، لا أهلَ شائعاتٍ وتَخويف.
فليسَ على مَنْ أحسنَ واتَّقَى، وآمنَ ونَصحَ منهم، أيُّ عَتَبٍ أو عُقوبة. واللهُ يَغْفِرُ للعاجِزينَ والمُحتاجينَ ويَرحَمُهم.
وليسَ هناكَ مُعاتبةٌ كذلكَ على مَنْ لم يَخرُجْ مَعكَ منَ الذينَ جاؤوكَ يَطلُبونَ أنْ تَحمِلَهم على الدوابِّ ليُجاهِدوا مَعك، فقلتَ لهم: لا أجدُ ما تَركَبونَ عليه، فرَجَعوا وأعينُهمْ تَسيلُ منَ الدمع، حَزينينَ مَغمُومِين، لأنَّهمْ لا يَجدونَ ما يَشتَرونَ بهِ مستَلزَماتِ الجِهاد، ليُقاتِلوا في سبيلِ الله.
وهُناكَ مِنَ الأعرابِ مَنْ يؤمِنُ باللهِ وباليَومِ الآخِر، ويَعُدُّ ما يُنفِقهُ في سَبيلِ اللهِ تَقَرُّبًا إلى الله، ويَبتَغونَ بذلكَ دُعاءَ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم لهم، فقدْ كانَ يَدعو للمُتصَدِّقينَ بالخَيرِ والبَركة، ويَستَغفِرُ لهم، ألاَ إنَّ ذلك حاصِلٌ لهم، فسيُقرِّبُهمْ عملُهمْ هذا إلى الله، ويُدخِلُهمْ ربُّهمْ في رَحمتِهِ الواسِعة، وهوَ يَغفِرُ ذُنوبَ عبادهِ المؤمنينَ التائبينَ على كثرَتِها، ويَرحَمُهمْ برَحمتِه.
والسابِقونَ الأوَّلونَ ممَّنِ اعتَنقوا الإسْلامَ وناصَروا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم منَ المهاجِرينَ الذينَ هاجَروا إلى المدينةِ دارِ الإسْلام، ومنَ الأنصارِ أهلِ المدينةِ الذينَ آوَوا إخوانَهمُ المهاجِرينَ وآزَروهم، والذينَ لَحِقوا بهمْ منْ بعدِهمْ بالإيمانِ والطَّاعةِ إلى يَومِ القيامة، فاقتَدَوا بهمْ واتَّبَعوهمْ بإحسَان، ولم يَقولوا فيهمْ سُوءًا، فأولئكَ رَضِيَ اللهُ عنهمْ بقَبولِ طاعتِهمْ وارتِضاءِ أعمالِهم، ورَضُوا همْ عنهُ بما نالُوهُ منَ النَّعيمِ والرَّحمةِ الواسِعة، وقدْ هيَّأ لهمْ في الآخِرَةِ جنّاتٍ عالِيات، تَجري مِنْ تحتِها الأنهار(53)، مُستَقِرِّينَ فيها أبداً، وذلكَ هوَ الفَلاحُ والنَّجاح، والسَّعادةُ والهَناء.
وممَّا قالَهُ ابنُ كثيرٍ في هذا رَحِمَهُ الله: فيا ويْلَ مَنْ أبغَضَهم، أو سَبَّهُم، أو أبغَضَ أو سبَّ بعضَهم... فأينَ هؤلاءِ منَ الإيمانِ بالقُرآن، إذْ يَسُبُّونَ مَنْ رَضِيَ اللهُ عنهم؟ وأمّا أهلُ السنَّةِ فإنَّهمْ يَترَضَّونَ عمَّنْ رَضِيَ اللهُ عنهم... ويُوالُونَ مَنْ يُوالي الله، ويُعادُونَ مَنْ يُعادِي الله، وهمْ مُتَّبِعونَ لا مُبتَدِعون...
(53) {تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ}: خالفتْ هذه الآيةُ عندَ معظمِ القرّاءِ أخواتها، فلم تُذكَرْ فيها (مِنْ) مع (تَحتِها) في غالبِ المصاحفِ وفي روايةِ جمهورِ القرّاء، فتكونُ خاليةً من التأكيد، إذ ليس لحرفِ (مِنْ) معنًى مع أسماءِ الظروفِ إلا التأكيد، ويكونُ خلوُّ الجملةِ من التأكيدِ لحصولِ ما يُغني عنه من إفادةِ التقوِّي، بتقديمِ المسندِ إليه على الخبرِ الفعلي، ومن فعلِ {أَعَدَّ} المؤذنِ بكمالِ العناية، فلا يكونُ المعَدُّ إلا أكملَ نوعه. وثبتتْ (مِنْ) في مصحفِ مَكة، وهي قراءةُ ابنِ كثيرٍ المكي، فتكونُ مشتملةً على زيادةِ مؤكدَين. (التحرير والتنوير).