تفسير سورة التوبة

  1. سور القرآن الكريم
  2. التوبة
9

﴿فَرِحَ الۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي الۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ﴾ [التوبة:81]


لقدْ فَرِحَ الذينَ تَخلَّفوا عنِ الجِهادِ في غَزوةِ تَبوكَ بقُعودِهمْ بعدَ خروجِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم، وكَرِهوا أنْ يَبذُلوا أموالَهمْ وأنفسَهمْ في سَبيلِ الله، إيثاراً للرَّاحةِ والكسَل، وطَلباً للتنعُّمِ والتلذُّذ، وقالَ بَعضُهمْ لبَعض، تواصياً فيما بينَهمْ بالباطل، وتثبيتاً لهمْ على القُعودِ عنِ الغَزو: لا تَخرُجوا في الحرِّ فإنَّهُ لا يُطاق. قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: إنَّ نارَ جهنَّمَ التي تَصيرونَ إليها بسبَبِ مُخالفتِكم، هيَ أشدُّ حرًّا مِنْ هذا الحَرِّ الذي ترَونَهُ مانعاً لكمْ منَ الخُروج، هذا لو كانوا يَعلمونَ أهوالَ جهنَّمَ وشدَّةَ حَرِّها، وفكَّروا بمصيرِهمْ حقًّا.

﴿فَلۡيَضۡحَكُواْ قَلِيلٗا وَلۡيَبۡكُواْ كَثِيرٗا جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾ [التوبة:82]


فلْيَتَنعَّموا ولْيَفرَحوا في هذهِ الدُّنيا، ولْيَضحَكوا ما شاؤوا في مدَّتِها القَصيرة، ولْيَذوقوا النارَ والهَوانَ في الدَّارِ الآخِرَة، ولْيَبكوا فيها بُكاءً دائماً لا يَنقَطِع، جزاءَ أعمالِهمُ السيِّئة، ومَعاصِيهمُ المُتكرِّرة، وإصرارِهم على مُخالفةِ أوامرِ اللهِ سُبحانه.

﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٖ مِّنۡهُمۡ فَاسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِيَ أَبَدٗا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِيتُم بِالۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَاقۡعُدُواْ مَعَ الۡخَٰلِفِينَ﴾ [التوبة:83]


فإذا ردَّكَ اللهُ مِنْ غَزوةِ تَبوكَ إلى جَماعةٍ مِنْ هؤلاءِ المتَخلِّفين - ويَعني المنافِقين، فقدْ كانَ بَعضُ المتَخلِّفينَ مَعذوراً - وطلَبوا الخُروجَ معكَ إلى غَزوةٍ أخرَى، فقلْ إهانةً لهمْ وعُقوبة: لنْ تَخرُجوا معي في سَفرٍ أبداً، ولنْ تُقاتِلوا معي عَدوًّا مِنَ الأعداء؛ لأنَّكمْ رَضِيتُمْ بالقُعودِ عنِ الغَزوِ أوَّلَ مرَّة، وفَرِحتُم بالتخلُّفِ عنِ الجِهاد، وآثرتُمُ التنعُّمَ على مُقارعةِ الأعْداء، فابقُوا قاعِدينَ معَ المتخلِّفين الذينَ لا يَقْدِرونَ على الجِهاد، منَ النِّساءِ والصِّبيانِ والمعوَّقين.

﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنۡهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبۡرِهِۦٓۖ إِنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُواْ وَهُمۡ فَٰسِقُونَ﴾ [التوبة:84]


ولا تُصَلِّ على أحدٍ ماتَ مِنَ المنافِقينَ أبداً، ولا تَقُمْ على قَبرهِ لتَتولَّى دَفنَه، أو َتستَغفِرَ لهُ وتدعوَ له، لأنَّهم كفَروا باللهِ وكذَّبوا رسُولَه، واستمرُّوا على كُفرِهمْ حتَّى ماتُوا وهمْ كذلك. والكافرُ لا يُصلَّى عليه.

وكانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ صلَّى على عبدِاللهِ بنِ أُبَيٍّ رأسِ المنافِقين، وذَكرَ أنَّهُ بينَ خِيْرَتَيْن؛ لقولهِ تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] فنزلتِ الآيَة، فما صلَّى بعدَها على مُنافِق، ولا قامَ على قَبرِه.

﴿وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ﴾ [التوبة:85]


فلا يَرُقْكَ شَيءٌ مِنْ أموالِهم ولا أولادِهم، ولا تَستَحسِنْ ذلكَ منهم، فإنَّما هوَ استِدراجٌ منَ اللهِ لهم، ليكونَ ذلكَ كلُّه وَبالاً عليهم، وعِقاباً لهمْ في الدُّنيا، مِنْ تَعَبٍ في جَمعِه، وكَدٍّ في تَحصِيله، ونَفقةٍ منهُ للزَّكاةِ والجِهادِ دونَ أنْ يُثابوا عليه، ومَقتَلِ أولادٍ لهمْ في الغَزو، وهمْ لا يَعتَقِدونَ استِشهادَهمْ ولا احتِسابَهمْ واللِّقاءَ بهمْ في اليَومِ الآخِر، فيَكونُ كلُّ ذلكَ حَسرَةً عليهم، وتَعذيباً نفسيّاً لهم، وأشدَّ في عُقوبتِهم، ولتخَرُجَ أرواحُهم ويموتُوا على كُفرِهم(52).

(52) {وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ}: يعني وتخرجَ أنفسُهم، فيموتوا على كفرهم بالله، وجحودِهم نبوَّةَ نبيِّ الله محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم. (الطبري). أصلُ الزهوق: خروجُ الشيءِ بصعوبة. أي: فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتعِ عن النظرِ في العاقبة، فيكونُ ذلك لهم نقمةً لا نعمة. (روح البيان). الزهوق: الخروجُ بشدَّةٍ وضيق، وقد شاعَ ذكرهُ في خروجِ الروحِ من الجسد.

﴿وَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٌ أَنۡ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسۡتَـٔۡذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوۡلِ مِنۡهُمۡ وَقَالُواْ ذَرۡنَا نَكُن مَّعَ الۡقَٰعِدِينَ﴾ [التوبة:86]


وإذا أُنْزِلَتْ سُورةٌ مِنَ القُرآنِ تأمرُ بالإخْلاصِ في الإيمانِ والجِهادِ معَ رَسولِه، طلبَ الإذنَ منكَ بالقُعودِ ذَوُو الغِنَى والسَّعَةِ منَ المنافِقين، وقالوا: دَعْنا نَكُنْ معَ القاعِدينَ منَ الذينَ لم يُجاهِدوا لعُذر.

﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الۡخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَفۡقَهُونَ﴾ [التوبة:87]


رَضُوا بأنْ يَبْقُوا معَ الخالِفينَ منَ الصِّبيانِ والعاجِزينَ والنِّساءِ بعدَ خُروجِ الجَيش. وختمَ اللهُ على قُلوبِهمْ بسبَبِ عَدمِ خُروجِهمْ معَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فهمْ لا يَفهمَونَ ما يَنفعُهمْ ولا ما يَضرُّهمْ في دُنياهُمْ وآخِرَتِهم.

﴿لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ جَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمُ الۡخَيۡرَٰتُۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التوبة:88]


أمّا الرسُولُ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وصَحابتهُ المؤمِنونَ معَه، فقدْ أنْفَقوا ما يَقْدِرونَ عليهِ منْ أموالٍ في الجِهاد، وبَذلوا أنفُسَهمْ في سَبيلِ الله، ولهمْ على ذلكَ خَيرُ الجَزاء، مِنْ منافعَ ونِعَمٍ كثيرةٍ تُسْعِدُ القَلبَ وتُبْهِجُ النَّفس. وأولئكَ همُ الفائزونَ بالجنّات، المخلَّدونَ فيها.

﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِيمُ﴾ [التوبة:89]


هيَّأَ اللهُ لرَسولهِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وللَّذينَ آمَنوا معهُ جنَّات، وهيَ البساتين، تَجري مِن تحتِ أشجارِها المثمرةِ الأنهارُ، معَ بقاءٍ دائمٍ فيها، وذلكَ هوَ الفَلاحُ والنَّجاح، الذي لا مثيلَ له.

﴿وَجَآءَ الۡمُعَذِّرُونَ مِنَ الۡأَعۡرَابِ لِيُؤۡذَنَ لَهُمۡ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [التوبة:90]


وجاءَ إليكَ المُعتَذِرونَ عنِ الجِهادِ مِنَ الأعرابِ حولَ المدينة، لتَأذنَ لهمْ بالتخلُّفِ عنِ الغَزو. وآخَرونَ منَ الأعرابِ منافِقونَ قَعدوا عنِ الجِهادِ ولم يَستأذِنوا أصْلاً، وهمْ قدْ كفَروا باللهِ وكذَّبوا رسُولَه. وسوفَ ينالُ الكافِرينَ مِنَ الأعرابِ عذابٌ مُؤلِمٌ مُوجِع.

﴿لَّيۡسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى الۡمَرۡضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ مَا عَلَى الۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [التوبة:91]


ليسَ هناكَ ذَنْبٌ في التخلُّفِ عنِ الجِهاد: على الضُّعفاءِ العاجِزينَ عنِ القِتال، وعلى المرضَى، مُزمِناً كانَ مَرضُهم أو غيرَ مُزمِن، وعلى الفُقَراءِ الذينَ لا يَجدونَ ما يَتجهَّزونَ بهِ للحَرب.

ليسَ على هؤلاءِ إثمٌ في التخلُّفِ عنِ الغَزو، إذا نَصَحوا في حالِ قُعودِهم، فكانوا أهلَ إيمانٍ وطاعَة، وعَهدٍ ومُؤازرة، لا أهلَ شائعاتٍ وتَخويف.

فليسَ على مَنْ أحسنَ واتَّقَى، وآمنَ ونَصحَ منهم، أيُّ عَتَبٍ أو عُقوبة. واللهُ يَغْفِرُ للعاجِزينَ والمُحتاجينَ ويَرحَمُهم.

﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوۡكَ لِتَحۡمِلَهُمۡ قُلۡتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحۡمِلُكُمۡ عَلَيۡهِ تَوَلَّواْ وَّأَعۡيُنُهُمۡ تَفِيضُ مِنَ الدَّمۡعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾ [التوبة:92]


وليسَ هناكَ مُعاتبةٌ كذلكَ على مَنْ لم يَخرُجْ مَعكَ منَ الذينَ جاؤوكَ يَطلُبونَ أنْ تَحمِلَهم على الدوابِّ ليُجاهِدوا مَعك، فقلتَ لهم: لا أجدُ ما تَركَبونَ عليه، فرَجَعوا وأعينُهمْ تَسيلُ منَ الدمع، حَزينينَ مَغمُومِين، لأنَّهمْ لا يَجدونَ ما يَشتَرونَ بهِ مستَلزَماتِ الجِهاد، ليُقاتِلوا في سبيلِ الله.

﴿۞إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسۡتَـٔۡذِنُونَكَ وَهُمۡ أَغۡنِيَآءُۚ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الۡخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [التوبة:93]


إنَّما اللَّومُ والعِقابُ على الذينَ يَستأذِنونَ في القُعودِ عنِ الجِهادِ وهمْ أغنِياء، الذينَ رَضُوا بأنْ يَبقُوا قاعِدينَ معَ الضَّعَفةِ والعَاجِزين، وقدْ ختمَ اللهُ على قلوبِهمْ وخذلَهم، فغَفَلوا عنِ التفكُّرِ في عِظَمِ ما يَقترفونَهُ مِنْ إِثم، ولم يُقَدِّروا عاقِبتَهُ السيِّئة.

﴿يَعۡتَذِرُونَ إِلَيۡكُمۡ إِذَا رَجَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡۚ قُل لَّا تَعۡتَذِرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكُمۡ قَدۡ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الۡغَيۡبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [التوبة:94]


وإذا عُدتُمْ مِنَ الغَزوِ يأتونَ فيَعتذِرونَ إليكم، بسَببِ تَخَلُّفِهمْ عنِ الجِهاد، قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: لا تُقَدِّموا المعَاذير، فلنْ نُصَدِّقَكم، قدْ أعلَمَنا اللهُ أحوالَكمْ وما تُضمِرونَهُ مِنْ كَذِبٍ وشَرّ، وسَيرَى اللهُ ورسُولهُ فيمَا بَعدُ عَملَكم: أتَتوبُون مِن نِفَاقِكمْ أم تُقيمُونَ عليه؟ ثمَّ تُرجَعونَ يومَ القيامةِ إلى مَنْ يَعلمُ الغَيبَ والشَّهادة، ويطَّلِعُ على الظَّاهرِ والباطِنِ منْ أعمالِكم، فيُنبِّئكمْ بها عندَ وقوفِكمْ بينَ يدَيهِ يومَ الحِساب، ويُجازيكمْ عليها شَرَّ الجَزاء.

﴿سَيَحۡلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمۡ إِذَا انقَلَبۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ لِتُعۡرِضُواْ عَنۡهُمۡۖ فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمۡۖ إِنَّهُمۡ رِجۡسٞۖ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾ [التوبة:95]


سيَحلِفونَ باللهِ لكمْ إذا رجعتُمْ منَ الغزوِ أنَّهمْ كانوا صَادقينَ في الاعتِذارِ عنِ المشاركةِ في الجِهاد، مُحِقِّينَ في البَقاءِ معَ المتَخلِّفينَ منَ العَجَزَةِ والأطفال، لتُعرِضُوا عنهمْ ولا تُعاتِبوهم، ولتَصفَحوا عنهمْ ولا تُؤنِّبوهم، فأعرِضُوا عنهمُ احتِقاراً لهم، إنَّهمْ خُبَثاءُ نَجِسونَ في بواطِنِهمْ واعتِقاداتِهم، ومكانُهمُ المُعَدُّ لهمْ هوَ جهنَّم، جزاءَ ما كسَبوا منْ خَطايا وسيِّئات.

﴿يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ لِتَرۡضَوۡاْ عَنۡهُمۡۖ فَإِن تَرۡضَوۡاْ عَنۡهُمۡ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرۡضَىٰ عَنِ الۡقَوۡمِ الۡفَٰسِقِينَ﴾ [التوبة:96]


يَحلِفونَ لكمْ عمّا اعتَذَروا منهُ إليكمْ لتَرضَوا عنهم، ولتُعامِلوهمْ مُعاملةَ إخوانِكمُ المسلِمين، فإنْ تَرضَوا عنهم بحسَبِ ما طَلَبوا، فإنَّ رِضاكمْ عنهمْ لا يَنفَعُهم، ولا يُجدي عندَ اللهِ شَيئاً، لأنَّ اللهَ لا يَرضَى عنِ الخارِجينَ عنْ طاعتهِ وطاعةِ رَسولِه.

﴿الۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ﴾ [التوبة:97]


وكُفرُ الأعْرابِ ونِفاقُهمْ أعظمُ وأشَدُّ مِنْ كُفرِ غيرِهمْ منَ الكفّارِ والمُنافِقينَ في الحَضَر، لجَفائهمْ وغَلاظَتِهم، وتوَحُّشِهمْ وقَساوةِ قُلوبِهم، وهمْ أحرَى وأخلَقُ ألاّ يَعلموا أوامِرَ اللهِ ونَواهيَه، لعَدَمِ مُخالَطَتِهمْ أهلَ العِلمِ والحِكمة، وحِرمانِهمْ منِ استِماعِ الكتابِ والسنَّة. واللهُ عَليمٌ بأحوالِ الناس، حكيمٌ فيما قَسَمَ بينَهمْ منَ العِلمِ والجَهل، والهُدَى والضَّلال.

﴿وَمِنَ الۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَآئِرَۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ السَّوۡءِۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ﴾ [التوبة:98]


ومِنَ الأعرابِ مَنْ يَعُدُّ ما يَصرِفُهُ في سَبيلِ اللهِ ويَتصدَّقُ بهِ غَرامةً وخَسارة، ويَنتَظِرُ بكمُ الحوادِثَ والآفات، والمصائبَ والبَلايا، لتَتبدَّلَ حالُكمْ إلى الأسوأ، جَعلَ اللهُ نوائبَ السُّوءِ عليهم، والله يَسمعُ مَقالاتِهمُ السيِّئة، ويَعلَمُ نيّاتِهمُ الفاسِدة، وما يَستَحِقُّونَهُ منْ عِقاب.

﴿وَمِنَ الۡأَعۡرَابِ مَن يُؤۡمِنُ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَٰتِ الرَّسُولِۚ أَلَآ إِنَّهَا قُرۡبَةٞ لَّهُمۡۚ سَيُدۡخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦٓۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [التوبة:99]


وهُناكَ مِنَ الأعرابِ مَنْ يؤمِنُ باللهِ وباليَومِ الآخِر، ويَعُدُّ ما يُنفِقهُ في سَبيلِ اللهِ تَقَرُّبًا إلى الله، ويَبتَغونَ بذلكَ دُعاءَ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم لهم، فقدْ كانَ يَدعو للمُتصَدِّقينَ بالخَيرِ والبَركة، ويَستَغفِرُ لهم، ألاَ إنَّ ذلك حاصِلٌ لهم، فسيُقرِّبُهمْ عملُهمْ هذا إلى الله، ويُدخِلُهمْ ربُّهمْ في رَحمتِهِ الواسِعة، وهوَ يَغفِرُ ذُنوبَ عبادهِ المؤمنينَ التائبينَ على كثرَتِها، ويَرحَمُهمْ برَحمتِه.

﴿وَالسَّـٰبِقُونَ الۡأَوَّلُونَ مِنَ الۡمُهَٰجِرِينَ وَالۡأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِيمُ﴾ [التوبة:100]


والسابِقونَ الأوَّلونَ ممَّنِ اعتَنقوا الإسْلامَ وناصَروا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم منَ المهاجِرينَ الذينَ هاجَروا إلى المدينةِ دارِ الإسْلام، ومنَ الأنصارِ أهلِ المدينةِ الذينَ آوَوا إخوانَهمُ المهاجِرينَ وآزَروهم، والذينَ لَحِقوا بهمْ منْ بعدِهمْ بالإيمانِ والطَّاعةِ إلى يَومِ القيامة، فاقتَدَوا بهمْ واتَّبَعوهمْ بإحسَان، ولم يَقولوا فيهمْ سُوءًا، فأولئكَ رَضِيَ اللهُ عنهمْ بقَبولِ طاعتِهمْ وارتِضاءِ أعمالِهم، ورَضُوا همْ عنهُ بما نالُوهُ منَ النَّعيمِ والرَّحمةِ الواسِعة، وقدْ هيَّأ لهمْ في الآخِرَةِ جنّاتٍ عالِيات، تَجري مِنْ تحتِها الأنهار(53)، مُستَقِرِّينَ فيها أبداً، وذلكَ هوَ الفَلاحُ والنَّجاح، والسَّعادةُ والهَناء.

وممَّا قالَهُ ابنُ كثيرٍ في هذا رَحِمَهُ الله: فيا ويْلَ مَنْ أبغَضَهم، أو سَبَّهُم، أو أبغَضَ أو سبَّ بعضَهم... فأينَ هؤلاءِ منَ الإيمانِ بالقُرآن، إذْ يَسُبُّونَ مَنْ رَضِيَ اللهُ عنهم؟ وأمّا أهلُ السنَّةِ فإنَّهمْ يَترَضَّونَ عمَّنْ رَضِيَ اللهُ عنهم... ويُوالُونَ مَنْ يُوالي الله، ويُعادُونَ مَنْ يُعادِي الله، وهمْ مُتَّبِعونَ لا مُبتَدِعون...


(53) {تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ}: خالفتْ هذه الآيةُ عندَ معظمِ القرّاءِ أخواتها، فلم تُذكَرْ فيها (مِنْ) مع (تَحتِها) في غالبِ المصاحفِ وفي روايةِ جمهورِ القرّاء، فتكونُ خاليةً من التأكيد، إذ ليس لحرفِ (مِنْ) معنًى مع أسماءِ الظروفِ إلا التأكيد، ويكونُ خلوُّ الجملةِ من التأكيدِ لحصولِ ما يُغني عنه من إفادةِ التقوِّي، بتقديمِ المسندِ إليه على الخبرِ الفعلي، ومن فعلِ {أَعَدَّ} المؤذنِ بكمالِ العناية، فلا يكونُ المعَدُّ إلا أكملَ نوعه. وثبتتْ (مِنْ) في مصحفِ مَكة، وهي قراءةُ ابنِ كثيرٍ المكي، فتكونُ مشتملةً على زيادةِ مؤكدَين. (التحرير والتنوير).