تفسير سورة التوبة

  1. سور القرآن الكريم
  2. التوبة
9

﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ الۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ الۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ﴾ [التوبة:101]


ومِمَّنْ حَولَ بَلَدِكمْ منَ الأعرابِ مُنافِقون، وكذا مِنْ أهلِ بلدِكمُ المدينة، اعتَادُوا على النِّفاق، ومَرَنوا عليهِ حتَّى مَهَروا فيه، فصَاروا يَعرِفونَ كيفَ يَتحامَونَ عنْ مواضِعِ التُّهَم، لا تَعلَمُهمْ أيُّها النبيّ، لعَراقَتِهمْ ورُسوخِهمْ في النِّفاق، نحنْ نَعلَمُهمْ جميعًا، ولا تَخفَى علينا خافِيةٌ منهم.

سنُعَذِّبُهمْ بالقَتلِ والسَّبي، أو بالجوعِ وعَذابِ القَبر، ثمَّ يومَ القيامةِ يُرجَعونَ إلى عَذابِ النار، التي تُسْعَرُ بهم، ويُخلَدونَ فيها.

﴿وَءَاخَرُونَ اعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة:102]


وطائفةٌ أخرَى منَ الناسِ أقرُّوا بتَخَلُّفِهمْ عنِ الجِهادِ مَيْلاً إلى الرَّاحَة، معَ إيمانِهمْ وتَصدِيقِهم، فخَلَطوا بينَ العَملِ الصَّالحِ والطالح، وتابُوا، فعسَى اللهُ أنْ يَقبَلَ توبتَهم، وهوَ سُبحانَهُ يَعفو عنِ التائبينَ مِنْ عبادهِ فيَغفِرُ لهم، ويُدخِلهمْ في رَحمتهِ الواسِعة.

وهمُ الذينَ أوثَقوا أنفُسَهمْ بسَوارِيِّ المسجِد، فأطلَقَهمْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعَذَرَهُمْ بعدَ نزولِ هذهِ الآية.

﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة:103]


خُذْ مِنْ أمولِ هؤلاءِ صَدَقةً تَكونُ كفّارةً لذُنوبِهم، تُطَهِّرُهمْ بها مِنْ آثارِ تَخَلُّفِهمْ عنِ الجِهاد، وتُنْمَى بها حسَناتُهمْ وأموالُهم، وادعُ لهمْ واستَغْفِر، إنَّ دُعاءَكَ يَبعَثُ في نُفوسِهمُ الأمنَ والرحمةَ والطمَأنينَة، واللهُ سميعٌ لدُعاءِ عِباده، عَليمٌ بمَنْ يَستَحِقُّ التوبةَ والرَّحمَة.

﴿أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقۡبَلُ التَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَأۡخُذُ الصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة:104]


ألمْ يَعلَموا أنَّ اللهَ يَتوبُ على مَنْ تابَ إليه، فيَقبَلُ توبتَهُ إنْ كانتْ صحيحةً خالِصة، ويَقبَلُ الصَّدقاتِ إذا كانتْ لوجههِ تعالَى، مِنْ مالٍ حَلال، وهوَ سُبحانَهُ كثيرُ قَبولِ التوبةِ مِنْ عِبادهِ المُستَغفِرينَ التائبين، رَؤوفٌ بهمْ رَحيم.

﴿وَقُلِ اعۡمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَالۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الۡغَيۡبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [التوبة:105]


وقُلْ للناسِ أيُّها النبيّ: اعمَلُوا ما شِئتُمْ منَ الأعمال، خَيرًا كانتْ أو شَرًّا، سِرًّا كانتْ أو عَلانية، فسَوفَ يُظهِرُها الله، فتُعرَضُ عليهِ يومَ القِيامة، كما تُعْرَضُ على الرسُول صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمِنين، وسَوفَ تُرجَعونَ إلى الله، عالِمِ الغَيبِ والشهادة، المُطَّلِعِ على الأعمالِ كلِّها، الخَبيرِ بنيّاتِ أصحابِها، فيُخبِرُكمْ بما كنتُمْ تَعمَلونَ في الدُّنيا وما كنتُمْ تَقصِدونَ بها، وسيُجازيكمْ عليها حَسَبَ ذلك.

﴿وَءَاخَرُونَ مُرۡجَوۡنَ لِأَمۡرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمۡ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيۡهِمۡۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ﴾ [التوبة:106]


ومِنَ المُتَخلِّفينَ فِئةٌ أخرَى غيرُ المُعتَرِفِين، وهمُ الثلاثةُ الذينَ خُلِّفوا، فلمْ يَعتَذِروا لهُ صلى الله عليه وسلم، ولم يَفعَلوا كما فَعلَ أهلُ السَّواري، الذينَ رَبَطوا أنفُسَهم بسَواريِّ المسْجد، فنَزلتْ توبَتُهم، وتأخَّرتْ توبَةُ هؤلاء. ولم يَكنْ تأخُّرُ الثلاثةِ عنْ نِفاق، فأمْرُهُمْ مؤخَّرٌ مَوقوف، حتَّى يَظهرَ أمرُ اللهِ فيهم، إنْ شاءَ عَذَّبَهمْ فلمْ يَتُبْ عَليهم، وإنْ شاءَ تابَ عَليهمْ وعَفا عَنهم. وهوَ سُبحانَهُ عليمٌ بمَنْ يَستَحِقُّ العُقوبةَ مِمَّنْ يَستَحِقُّ العَفو، حَكيمٌ فيما يَقولُ ويَفعَل.

﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ الۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا الۡحُسۡنَىٰۖ وَاللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ﴾ [التوبة:107]


كانَ أبو عامرٍ الراهبُ (الكذّابُ) مِنَ الخَزْرَج، ترَهَّبَ في الجاهليَّة، وصارَ لهُ شرَفٌ عندَهم، فلمّا اجتمعَ المسلِمونَ على رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَسَدَهُ وعاندَه، وكانَ معَ المشرِكينَ يومَ أُحُد، ثمَّ التحَقَ بمَلِكِ الرومِ وأقامَ عندَه، ووَعدَهُ مُساعدَةَ قومِه، فأعلَمَ بعضَ أهلِ النِّفاقِ والرَّيبِ أنَّهُ سيَقدُمُ بجَيشٍ يُقاتِلُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأمرَهمْ أنْ يَبنوا مَعقِلاً يكونُ مَرصَدًا لهُ إذا قَدِمَ عليهم، فشَرَعوا في بناءِ مَسجدٍ مُجاورٍ لمسجدِ قُباء، فبَنَوهُ وأحكمُوه، وطلَبوا منْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يأتيَ ويُصلِّي فيه، ويَدعوَ لهم بالبرَكة، ليَحتَجُّوا بصَلاتهِ عليه الصلاةُ والسلامُ فيهِ على تَقريرِهِ وإثباتِه، فعصمَهُ اللهُ منْ ذلكَ بالوحي، وعندَ رُجوعهِ منْ غزوةِ تبوكَ أمرَ بهدْمِه... قالَ اللهُ تعالَى ما مَعناه: وهؤلاءِ القومُ الذينَ بَنَوا مَسجِدًا، بنَوهُ ليُلحِقوا الضَّررَ بالمسلِمين، وليَكْفُروا فيه، ويَتفَرَّقوا بهِ عنِ المسلِمينَ منْ أهلِ قُباء، الذينَ كانوا يُصَلُّونَ في مَسجِدِهم، وليَكونَ مَعقِلاً ومكانَ إرصَادٍ وترقُّبٍ لمَنْ عادَى اللهَ ورَسولَهُ مِنْ قَبل.

ويَحلِفُ هؤلاءِ القومُ أنَّهمْ ما أرادوا ببِناءِ هذا المسجدِ إلاّ النيَّةَ الصالحة، ليُعَمَّرَ بذكرِ الله، وللتوسِعةِ على المسلِمين، واللهُ يَشهَدُ أنَّهمْ كاذِبونَ فيما حَلَفوا فيهِ ونوَوا عليه.

﴿لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الۡمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة:108]


لا تَقُمْ أيُّها النبيُّ للصَّلاةِ في ذلكَ المسجدِ أبَدًا. وإنَّ مَسْجِدًا بُنيَ أساسُهُ على تقوَى اللهِ وطاعتهِ مِنْ أوَّلِ يَوم، أحقُّ وأفضَلُ مِنْ أنْ تَقومَ فيهِ للصَّلاة. والمقصودُ المسجِدُ النبويُّ الشريف، كما في الحديثِ الصحيحِ الأقوى. وقدْ وردَ أيضًا أنَّ المقصودَ مسجِدُ قُباء، وجمعَ بعضُهمْ بينَ ذلكَ أنَّ كُلاًّ منَ المسجِدَينِ مُراد، لأنَّ كُلاَّ منهما أُسِّسَ على التقوَى منْ أوَّلِ يومِ تأسيسِه.

فيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتنَظَّفوا ويَتطّهَّروا منَ النَّجاسَات، واللهُ يُحِبُّ المتطَهِّرين، فيَرضَى عنهمْ ويُكرِمُهم، ويُعَظِّمُ ثوابَهمْ لأجلِ ذلك.

وفي حَديثِ أبي هُريرةَ الصَّحيحِ أنَّها نزلَتْ في أهلِ قُباء، وكانوا يَستَنجونَ بالماء.

ولا يُعارِضُ هذا نصَّ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأنَّ المسجِدَ المقصودَ هوَ المسجِدُ النبويُّ الشَّريف، كما أفادَهُ الآلوسيُّ في تَفسيرِه.

﴿أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَانۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [التوبة:109]


أفمَنْ أسَّسَ بُنيانَ دِينِهِ على قاعِدةٍ مُحكَمة، هيَ طاعةُ اللهِ ومَرضاتُه، أفضَل، أمْ مَنْ أسَّسَهُ على طَرَفِ حَفيرةٍ مُتَصَدِّعةٍ مُشرِفَةٍ على السُّقوط، فأدَّى ذلكَ إلى انهيارهِ وسقوطِهِ في نارِ جَهنَّم، فيكونُ ذلكَ جزاءَهُ ومصيرَه؟ واللهُ لا يُصلِحُ عَملَ المُفسِدين.

﴿لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ الَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:110]


لا يَزالُ بِناؤهمُ الذي سَمَّوهُ مَسجِدًا شَكًّا في مُعتَقَدِهم، ونِفاقًا يُبطِنونَه، وقلَقًا واضطِرابًا في قُلوبِهم، إلاّ أنْ تَتقَطَّعَ وتَتفرَّقَ قُلوبُهمْ ويَموتوا. واللهُ عَليمٌ بخَلقِهِ وما يَعمَلون، حَكيمٌ فيما يَفعَلُ بهم.

﴿۞إِنَّ اللَّهَ اشۡتَرَىٰ مِنَ الۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي التَّوۡرَىٰةِ وَالۡإِنجِيلِ وَالۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ اللَّهِۚ فَاسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ الَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِيمُ﴾ [التوبة:111]


لقدْ عاوَضَ اللهُ عِبادَهُ المؤمِنينَ على أنفسِهمْ وأموالِهمْ إذا بَذلوها في سَبيلهِ بأنَّ لهمُ الجنَّة، يُقاتِلونَ في سَبيلِ الله، لا هدفَ لهمْ مِنْ وراءِ ذلك سِوَى إعلاءِ كلمتِه، فيَقتلونَ الكفّار، أعداءَ اللهِ وأعداءَ دينِه، ويُقتَلونَ بأيديهم، فيَستَشهِدونَ في سَبيلِه.

هذا وَعدٌ منَ اللهِ تعالَى، كتبَهُ على نَفسِهِ الكريمة، وأثبتَهُ في كُتُبِهِ المُنْزَلةِ على رُسُلِهِ مِنْ أُولي العَزم، في التوراةِ المُنْزَلَةِ على موسَى، والإنجيلِ المُنْزَلِ على عيسَى، والقُرآنِ المُنْزَلِ على مُحَمَّدٍ، عليهمْ جميعًا صلواتُ اللهِ وسَلامُه.

ولا أحدَ مِثْلُ اللهِ في الوفاءِ بعَهدِه، فهوَ لا يُخلِفُ الميعادَ أبَدًا.

فاستَبشِروا مَعْشرَ المجاهِدينَ في سَبيلِه، وابتَهِجوا ببَيعِ أنفسِكمْ وأموالِكمْ لله، الذي يأخذُكمْ إلى ساحاتِ الجِهاد، ومنها إلى جَنّاتِ اللهِ الخالِدات، كما وَعدَكمُ اللهُ بذلك، وهوَ الفَوزُ الذي لا فَوزَ أعظمُ منه، والنَّعيمُ المُقيمُ الذي لا سَعادةَ وراءَه.

﴿التَّـٰٓئِبُونَ الۡعَٰبِدُونَ الۡحَٰمِدُونَ السَّـٰٓئِحُونَ الرَّـٰكِعُونَ السَّـٰجِدُونَ الۡأٓمِرُونَ بِالۡمَعۡرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الۡمُنكَرِ وَالۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِۗ وَبَشِّرِ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [التوبة:112]


مِنْ صِفاتِ المؤمِنينَ أنَّهمْ تائبونَ منَ الذُّنوب، صَغيرِها وكبيرِها، حامِدونَ لربِّهمْ على كلِّ حال، صَائمونَ لله، والصَّومُ منْ أفضَلِ الطاعات، فهوَ يُقَلِّصُ منْ شَهواتِ الإنسانِ ويُقَرِّبُهُ إلى الله، راكِعونَ لربِّهمْ ساجِدون، في الصَّلواتِ المفروضَات، والركوعُ والسجودُ منْ أعظَمِ أركانِ الصَّلاة، وفيهما أظهَرُ صُوَرِ العُبوديَّةِ لله، و "أقرَبُ ما يكونُ العَبدُ مِنْ ربِّهِ وهوَ ساجد" كما في صَحيحِ مُسلم.

وهمْ يَنفَعونَ الناسَ ويُرشِدونَهمْ إلى الإيمانِ والطَّاعة، ويُحَذِّرونَهمْ منَ الشِّركِ والمعصِية، ويأتَمِرونَ بأوامرِ الله، فيُحِلُّونَ ما أحلَّ، ويُحَرِّمونَ ما حَرَّم. وبَشِّرِ المؤمنينَ المتَّصفينَ بهذهِ الصِّفاتِ الجليلةِ بكلِّ خَيرٍ وفَلاح.

﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ الۡجَحِيمِ﴾ [التوبة:113]


- ما صحَّ في حُكمِ الله، وما استقامَ للنبيِّ والمؤمنينَ معَهُ حقَّ الإيمان، أنْ يَطلُبوا المغفِرةَ للمُشرِكين، ولو كانوا منْ ذَوي قَرابتِهم، منْ بعدِ ما عَرَفوا أنَّهمْ ماتوا كُفّاراً، وأنَّهمْ منْ أهلِ النار.

وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ دخلَ على عَمِّهِ أبي طالبٍ وهوَ يَحتَضِر، فحاوَلَ معَهُ ليَقولَ "لا إله إلاّ الله" فلمْ يَفعَل، حتَّى مات، وقالَ أخيراً إنَّهُ على مِلَّةِ أبيهِ عبدِالمُطَّلِب، فقالَ صلى الله عليه وسلم: "لأستَغفِرَنَّ لكَ ما لم أُنْهَ عَنك". فنَزَلت، كما وردَ في الصَّحيحَينِ وغيرِهما، عنْ سعيدِ بنِ المسيِّبِ عنْ أبيه.

ويَجوزُ الدُّعاءُ للأحياءِ منَ الكفّار، بتَوفيقِهمْ وهدايتِهمْ للإسْلام.

﴿وَمَا كَانَ اسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّـٰهٌ حَلِيمٞ﴾ [التوبة:114]


وما كانَ استِغفارُ إبراهيمَ لأبيه، بقولهِ: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [سورة الشعراء: 86] بأنْ يَهدِيَهُ للإيمان، إلاّ عنْ مَوعِدٍ وَعَدَ بهِ إبراهيمُ أباهُ بقَولهِ: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [سورة الممتحنة: 4] فلمّا تَبيَّنَ لإبراهيمَ أنَّهُ استمرَّ في عَداوتهِ للهِ حتَّى ماتَ كافِراً، قطعَ الصِّلةَ التي بينَهُ وبينَهُ، وتركَ الاستغفارَ له، إنَّ النبيَّ إبراهيمَ كثيرُ التضرُّعِ والدُّعاء، كثيرُ الصَّبرِ على أذَى الناس، صَفُوحٌ عنهم.

وكانَ المسلمونَ يَستغفِرونَ لأمواتِهمْ مِنَ المشركين، بحُجَّةِ أنَّ إبراهيمَ استغفرَ لأبيه، فنزلتِ الآيةُ لتُزيلَ الإشكال، فكَفُّوا.

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ﴾ [التوبة:115]


وما كانَ اللهُ لِيَحكُمَ عليكمْ بالضَّلالِ بعدَ أنْ هَداكُمْ للإيمانِ حتَّى يَذكُرَ لكمُ المَنهيَّ عنهُ لتَجتَنِبوه، أمّا قبلَ بَيانِ الأمرِ فلا يَقضي عليكمْ بالضَّلال، واللهُ عليمٌ بكلِّ شَيء، ومِنْ ذلكَ ما تأتُونَهُ وما تَترُكونَه، ونيَّاتُكمْ في ذلك.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۖ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۚ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ﴾ [التوبة:116]


وكلُّ ما في السَّماواتِ والأرضِ منْ أحياءٍ وجَماداتٍ ونَباتاتٍ مُلْكٌ للهِ وحدَه، وهوَ الذي يُحيي إنْ أرادَ الحياةَ لشَيء، ويُميتُ مَنْ شاء، فلا تَرهَبوا منَ الأعداء، وقاتِلوهُم، وثِقوا بنَصرِ الله، فإنَّهُ لا ناصِرَ لكمْ غيرُه، ولا مولَى لكمْ سِواَه.

﴿لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالۡمُهَٰجِرِينَ وَالۡأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾ [التوبة:117]


لقدْ غفَرَ اللهُ ذُنوبَ الصَّحابةِ مِنَ المهاجِرينَ والأنصار- وذُكِرَ بينَهمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم تَشريفًا لهمْ وتَعظيمًا لقَدرِهم - الذينَ خَرَجوا معَهُ إلى غَزوةِ تبوكَ في وقتِ الشدَّةِ والضِّيق، حتَّى كادَ بعضُهمْ أنْ يَتخَلَّفَ عنِ الجهادِ لصُعوبتِهِ وزيادةِ المشقَّةِ فيه، ثمَّ عَصمَهمُ اللهُ وثَبَّتَهمْ وغَفرَ لهم، وهوَ سُبحانَهُ رَؤوفٌ بهمْ إذْ رَزقَهمُ الإنابةَ إليه، رَحيمٌ بهمْ إذْ تابَ عليهم.

وكانَ خروجُ المُجاهِدينَ إلى غَزوةِ تبوكَ في سنةِ قَحْطٍ وجَدْب، وحَرٍّ شَديد، معَ قِلَّةِ الزادِ والماء، حتَّى كانَ الرجُلانِ يَشُقَّانِ التمرةَ بينَهما! فرَحِمَهمُ اللهُ وأعادَهمْ منَ الغَزو.

﴿وَعَلَى الثَّلَٰثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ الۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة:118]


وتابَ اللهُ على الثلاثةِ منَ الصَّحابةِ الذينَ تَخلَّفوا عنْ غَزوةِ تبوكَ تكاسُلاً لا نِفاقًا، وقدْ تابُوا إليه. وتأخَّرَ نزولُ توبَتِهمْ عنْ آخَرِينَ ممَّنْ ربَطوا أنفسَهمْ بسواريِّ المسجِدِ حتَّى يَتوبَ اللهُ عليهم، فتابَ عليهم، وبقيَ أمرُ الثلاثةِ مُعَلَّقًا، حيثُ لم يَفعلوا مثلَما فَعَلوا. وأمرَ رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم بالإعراضِ عنهم، وعَدمِ مُجالَسَتِهمْ ومُحادثَتِهم. وتأخَّرَ أمرُهمْ إلى أنْ ضاقَتْ عليهمُ الأرضُ على رَحْبِها وسَعَتِها، وضاقَتْ قُلوبُهم، وامتلأتْ نُفوسُهمْ حُزناً وغَمًّا، وتَحيَّروا، فلا يَدرونَ ما يَصنَعون، وعَلِموا أنَّهُ لا مَلجأ منْ سَخطِ اللهِ إلاّ بالإنابةِ إليه، والصَّبرِ على قَضائه، والاستِكانةِ إليه، وانتِظارِ الفرَجِ منْ عندِه، ثمَّ وفَّقَهمُ اللهُ للتَّوبةِ والثبَاتِ عليها إلى أنْ أنزلَ قَبولَ توبَتِهم؛ لصِدْقِ مَقالِهم، وإخلاصِهم، واللهُ كثيرُ قَبولِ التوبةِ مِنْ عباده، رَحيمٌ بهم، فلا يُعَذِّبُهمْ بذنوبِهمْ بعدَ قَبولِ تَوبتِهم، ولو كانتْ كثيرَة.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّـٰدِقِينَ﴾ [التوبة:119]


أيُّها المؤمِنون، احذَروا مخالَفةَ أمرِ الله، وتَجنَّبوا ما لا يَرضاه، والزَموا الصدقَ لتَكونوا منْ أهلهِ وتَنجُوا منَ المَهالِك، وليَجعلَ اللهُ منْ أمرِكمْ فرَجًا ومَخرَجًا.

﴿مَا كَانَ لِأَهۡلِ الۡمَدِينَةِ وَمَنۡ حَوۡلَهُم مِّنَ الۡأَعۡرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرۡغَبُواْ بِأَنفُسِهِمۡ عَن نَّفۡسِهِۦۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا يُصِيبُهُمۡ ظَمَأٞ وَلَا نَصَبٞ وَلَا مَخۡمَصَةٞ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَـُٔونَ مَوۡطِئٗا يَغِيظُ الۡكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّٖ نَّيۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٞ صَٰلِحٌۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [التوبة:120]


ما كانَ يَنبَغي ولا يَستَقيمُ لأهلِ المدينةِ ومَنْ حَولَهمْ مِنْ أحياءِ العَربِ أنْ يَتَخلَّفوا عنْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غَزوةِ تَبوك، ولا أنْ يَترَفَّعوا بأنفُسِهمْ عنْ نَفسِهِ الكريمة، بلْ كانَ عليهمْ أنْ يَتقَدَّموا ويُكابِدوا ما كابدَهُ منَ المَشاقّ، وإنَّهمْ بتَخلُّفِهمْ قدْ حرَموا أنفُسَهمْ ثوابًا عظيمًا، فإنَّ المُشارِكينَ في الجِهادِ ولو لم يُحارِبوا، لا يُصيبُهمْ شَيءٌ مِنَ العَطش، أو التعَب، أو المَجاعة، في طَاعةِ اللهِ وجهادِ أعدائه، ولا يَنزِلونَ مَنزِلاً يُضَيِّقونَ بهِ صُدورَ الكفّارِ ويُرهِبونَهم، ولا يُصيبونَ مِنْ عَدوٍّ قَتلاً أو أسْرًا، أو غَنيمةً أو هَزيمة، إلاّ كُتِبَ لهمْ بهذهِ الأعمالِ أجرٌ كبيرٌ وثَوابٌ جَزيل، واللهُ لا يُضِيعُ إحسانَهمْ وحِرصَهمْ وتَفانيهمْ في إعلاءِ كلمةِ الله.