ولو أنَّ كِتابًا زُعزِعَتْ وسُيِّرَتْ بهِ الجبالُ عنْ أماكنِها، أو شُقِّقَتْ بهِ الأرضُ فتَصَدَّعَت، أو كُلِّمَ بهِ الموتَى في قُبورِهمْ فأحياهُمْ بقِراءَتِه، لكانَ هذا القُرآنُ هوَ المُتَّصِفَ بذلكَ دونَ غَيرِه، لِما فيهِ منَ الإعجاز، وعَجائبِ آثارِ قُدرَةِ اللهِ وهَيبتِه. ولكنَّ اللهَ أرادَ لهُ أنْ يكونَ كتابَ هِدايَةٍ يُخاطِبُ الأحياءَ العُقَلاء.
وحَقًّا لقدْ صنعَ القُرآنُ أُمَّةً عَظيمة، ونَقلَ شُعوبًا مِنْ ظُلُماتِ الجَهلِ إلى نُورِ العِلمِ والإيمان، والعِزِّ والنَّصرِ والأمَان... ومازالَ كذلكَ لو جُعِلَ دُستورًا في الحياة.
ومَرجِعُ الأمورِ كُلِّها إلى اللهِ وحدَه، فهوَ الذي يَهدي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِه ويُضِلُّ مَنْ يَشاء، ويَحكمُ بما يُريدُ في الكونِ كُلِّه، فهوَ المتصَرِّفُ فيه، ولا مُعَقِّبَ لحُكمِه.
ولو أرادَ اللهُ أنْ يَهديَ النَّاسَ جَميعًا لهَداهُمْ فكانوا كالملائكةِ الذينَ جُبِلوا على الطَّاعة، ولكنَّهُ سُبحانَهُ خَلقَ في الإنسَانِ عَقلاً وإرادَة، ووَهبَهُ الاختِيارَ بعدَ أنْ أعطاهُ المَقدِرَةَ على التَّمييزِ بينَ الخَيرِ والشرّ. فهلْ ما يزالُ المؤمِنونَ يَطمَعونَ بإيمانِ النَّاسِ كُلِّهم؟ فَلْيَترُكوهمْ لأمرِ اللهِ إذاً، فهوَ أعلمُ بالكافِرينَ وبقُلوبِهمُ المَريضَة، وأعمالِهمُ الخَبيثة، فليسَ هناكَ أبلَغُ ولا أعظمُ منَ القُرآنِ الذي بينَ أيديهم، فهوَ حُجَّةُ اللهِ بينَ خَلْقِه، فمَنْ تركَهُ ولم يَهتَدِ بهِ فأنَّى لهُ الهِداية؟
ولاتَزالُ المصائبُ والدَّواهي وأنواعُ البَلاءِ تَنزِلُ بالكافِرين، منَ القَتلِ والأسْرِ والسَّلبِ والقَحْط، لتَماديهِمْ في الكُفرِ واستِكبارِهمْ عنِ اتِّباعِ الدِّينِ الحقّ، عسَى أنْ يَتنَبَّهوا بذلكَ ويَرتَدِعوا. أو تَنزِلُ المصائبُ بمَنْ حولَهمْ فتُرَوِّعُهمْ وتُزَلزِلُ قُلوبَهم، ليَتَّعِظوا ويَعتَبِروا، حتَّى يأتيَ وعدُ اللهِ الذي أمهَلَهمْ إلى حينِه، فيَموتوا، أو يَقومُوا للحِساب. واللهُ لا يُخلِفُ وَعدًا، بلْ هوَ أوفَى مَنْ وفَّى بوَعَدٍ وعَهد، وهوَ آتيهِمْ لا رَيبَ فيه، فليَختاروا ما شَاؤوا، فإنَّهمْ مُحاسَبونَ على اختِيارِهم، وعلى أعمالِهم.