عندما أمرَ اللهُ المسلِمينَ أوَّلاً بالتوجُّهِ إلى بيتِ المَقدِس، ثمَّ أمرَهمْ بالتحوُّلِ إلى الكعبة، شقَّ ذلكَ على طائفةٍ منْ أهلِ الكتابِ وبعضِ المسلمين، فبيَّنَ في هذه الآيةِ العظيمةِ أنَّ المهمَّ في هذا هوَ التسليمُ والطاعةُ والامتثالُ لأمرِ الله.
فليستِ الغايةُ منَ التوجُّهِ إلى المشرقِ والمغربِ هوَ الجهةُ بعينِها، ولا القيامُ بحركاتٍ ظاهرةٍ نحوَها، فلا تَكمُنُ الخيريَّةُ في هذهِ الأمورِ مجرَّدةً عنِ الدافعِ منْ ورائها وطاعةِ الآمرِ بها، فجِماعُ الخيرِ هوَ في العَقيدةِ الصَّحيحَة، والطاعةِ لله، والتسليمِ بأمرِه، الذي يُعطي القيمةَ والقَبولَ لتلكَ الأعمال، الإيمانُ بهِ عزَّ وجلَّ أوَّلاً إيماناً عميقاً، وباليومِ الآخِرِ وما فيهِ منْ جَزاءٍ وحِساب، ونَعيمٍ وعَذاب، وبالملائكةِ جُندهِ ورسلهِ بينَهُ وبينَ عباده، وبالكتابِ الحقِّ المُنـزَلِ منْ عندِ اللهِ على رسولهِ لهدايةِ عبادِه، آخِرُها القُرآن، الذي نسخَ كلَّ ما قبلَهُ منَ الكتُب. وبأنبياءِ اللهِ كلِّهم، حتَّى خاتمِهم محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، منْ غيرِ تَفرقةٍ بينهمْ كما فعلَ أهلُ الكتاب.
والمؤمِنُ الصادقُ أيضاً هوَ مَنْ أنفقَ مِنْ مالِهِ وهوَ محبٌّ لهُ راغِبٌ فيه، فأعطاهُ لأهلهِ وأقربائه، ولليتامَى الذينَ فَقدوا آباءَهمْ وكانوا صِغاراً ضُعَفاء، والمساكينِ الذينَ لا يَجدونَ ما يَكفيهم، وابنِ السبيلِ الذي نَفِدَتْ نفقتُهُ وهوَ بعيدٌ عنْ وطنه، والسائلينَ الذينَ ألجأتهمُ الحاجةُ والضرورةُ إلى السؤال، وفي الرِّقاب: العبيدِ الذينَ يُريدونَ أن يُصبِحوا أحرَاراً ولا يجدونَ المبلغَ الكافيَ لإعطائهِ أسيادَهمْ منْ أجلِ ذلك.
ثمَّ حافظَ على عباداتِه، فأقامَ الصلاةَ المفروضةَ بشروطِها وأركانِها، وأدَّى زكاةَ مالِه. وأنْ يكونَ منَ الأوفياءِ بعهودِهمْ إذا عاهدوا، فلا يَخونُ ولا يَغْدِرُ كالمنافقينَ ومَنْ حَذا حَذْوَهم.
ومنَ الصابرينَ إذا أصابَهُ مَكروه، كفَقرٍ أو مَرض. وكذلكَ في حالِ القِتالِ ولقاءِ العدوّ.
فهؤلاءِ الذينَ اتَّصفوا بهذهِ الصفاتِ، همُ الذينَ صدَقوا ربَّهمْ في إيمانِهم، فاتَّبعوا الحقّ، وتحرَّوا البِرّ، وأحرَزوا الخير، وابتَعدوا عنِ المحارمِ والموبِقاتِ وسائرِ الرذائل، وفعلوا الطاعاتِ المطلوبةَ منهم؛ امتثالاً لأمرِ اللهِ وخَشيةً منه.