كلُّ ما في السَّماواتِ والأرضِ مُلكٌ لله، وهوَ سُبحانَهُ مطَّلعٌ على جميعِ ما فيها، خبيرٌ بحركاتِها وسَكناتِها، مهما خَفِيتْ وصَغُرت، عليمٌ بما في نُفوسِكمْ أيُّها البشَر، إنْ أظَهرتُموهُ أو كتَمتُموه، ويُحاسبُكمْ على كلِّ ذلك، ثمَّ يَغفرُ لمنْ شاءَ منكم، ويُعَذِّبُ مَنْ شاء، واللهُ لا يُعْجِزهُ شَيء، وهوَ قادرٌ على ما يَشاء.
وفي هذا تَخويفٌ شديد، وتَرهيبٌ مُخيف، فإنَّ المحاسبةَ على السيِّءِ منَ الأعمالِ القلبيَّةِ ليسَ في صالحِ النفسِ البشريَّةِ مهما كانتْ مُؤمِنةً صالحة، فلا يُمكِنُ الاحترازُ عنْ كثيرٍ منْ هذهِ الأعمال. وهذا الذي دفعَ الصحابةَ رضيَ اللهُ عنهمْ إلى أنْ يُراجِعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لتَقْواهم وشِدَّةِ إيمانِهم، وقالوا له: "كُلِّفنا منَ الأعمالِ ما نُطيق، الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقدْ أُنْزِلتْ عليكَ هذهِ الآيةُ، ولا نُطيقُها".
فنهاهُمْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يكونوا مثلَ أهلِ الكتابِ وقولِهمْ: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}، وأمرَهُمْ أنْ يَقولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
فقالوا ذلك، فنـزَلتِ الآيةُ التاليةُ ناسخةً لها، وفيها قولهُ تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. فاستجابَ لهمْ ربُّهم، وقال: "قدْ فَعَلْتُ"، كما في صَحيحِ مُسلمٍ وغيرِه.
وفي الحديثِ الذي رواهُ البخاريُّ وغيرُه: "إنَّ اللهَ تجاوزَ عنْ أمَّتي ما حدَّثتْ بهِ أنفُسَها ما لم تَعملْ أو تَتكلَّم".
وفي الآيةِ تَذكيرٌ للمؤمنينَ بما يُمكنُ أنْ يُحاسَبوا عليهِ حتَّى يَزيدوا منْ معالجةِ تربيةِ أنفسِهمْ ويحافِظوا على تَزكيتِها باستِمرار، ويَطلبوا منَ اللهِ العفوَ والمغفرةَ دائماً. وفي التاليةِ بيانٌ لفضلِ اللهِ عليهمْ وتَجاوزهِ عنْ ذلك.