انظرْ إلى هذا المَلِكِ المتكبِّرِ المتعنِّت، الذي أعطاهُ اللهُ منَ المالِ ما أعْطاه، ثمَّ جاءَ يُجادلُ النبيَّ إبراهيمَ عليهِ السلامُ ويُخاصِمهُ في ربِّه، وذلكَ لمّا رأى نفسَهُ مختصّاً بمالٍ ومُلكٍ ليسَ عندَ غَيرِه، ويأمرُ وينهَى كما يَشاءُ فيُسمَعُ ويُطاع، فقالَ لهُ إبراهيمُ عليهِ السلام، لِيُريَهُ حَقيقَةَ نفسهِ وضَعْفَ قوَّتهِ وإرادتهِ أمامَ ربِّهِ الخالق: إنَّ اللهَ يُحْيي ويُمِيتُ، وإنَّ ما يُرَى مِنْ ذلكَ في عالمِ الإنسانِ والحيوانِ دليلٌ على وجودِه، وعلى تَصريفهِ للكونِ وتَدبيرِهِ لما يَجري فيهِ وحدَه، فهي لا تَحْدُثُ بنفسِها، بلْ لا بدَّ لها مِنْ مُوجدٍ ومِنْ مدبِّر، وهوَ الذي يَسْلُبُ حياةَ مَنْ شاءَ متَى شاء، بأسبابٍ ظاهرةٍ أو باطِنة، مَعروفةٍ أو غيرِ مَعروفة.
فالإحياءُ والإماتةُ مِنْ صفاتِ هذا الإلهِ الذي لا يَكونُ أحدٌ مثلَه، ولا يَستطيعُ أحدٌ أنْ يَقومَ بما يقومُ هوَ به، وهوَ الذي أعبدهُ وأدعوكَ وأدعو الناسَ إلى الاستسلامِ لهُ وعبادتِه، فهوَ الخالق، والمُحيي والمُميت، الذي بيدهِ كلُّ شَيءٍ في هذا الكون، فلا إلهَ إلا هو، ولا عبادةَ إلاّ له.
واغترَّ هذا المَلِكُ المتكبِّرُ بما يَملِكُ مِنْ قُوىً بشَريَّةٍ وسَيطرة، فتمادَى في غَيِّهِ وقالَ لإبراهيم: أنا أيضاً أُحيي وأميت!
ذكرَ غيرُ واحدٍ أنَّهُ أوتيَ برَجُلَينِ استحقّا القَتل، فأمرَ بقَتلِ أحدِهما وعفَا عنِ الآخَر، فذكرَ أنَّهُ أماتَ الأوَّلَ وأحيَا الآخَر، فكانَ هذا مفهومَ الإحياءِ والإماتةِ عندَه!
ولم يُرِدْ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ أنْ يُطيلَ معَهُ الجِدالَ وهوَ بهذهِ العقليَّةِ المتكبِّرةِ المُنكَرة، فأرادَ أنْ يُفهِمَهُ أنَّ الإلهَ المقصودَ بعبادتهِ هوَ المتصرِّفُ في الكونِ كلِّه، وأنَّ هذهِ القوانينَ الكونيَّةَ الموجودةَ هي منْ صُنعهِ وتَدبيرِه، وطلبَ منهُ تغييرَ قانونٍ واحدٍ منْ هذهِ القوانينِ الكثيرةِ المبثوثةِ في الكون، بما أنَّهُ يدَّعي أنَّهُ هوَ الآخَرُ فيه صفةُ الربوبية، وقالَ له: إنَّ اللهَ جعلَ الشمسَ تُشرقُ منَ الشرق، فَأْمُرْها أنتَ لتُشْرِقَ منَ الغرب!
فتحيَّرَ ذلكَ المَلِكُ وسكت، وعَجَزَ عنِ الكلام، وصُدِمَ بهذهِ الحُجَّةِ الدامغةِ التي لم تَدَعْ لهُ منطقاً يُدافعُ بهِ عنْ نفسِه. لكنَّهُ لم يُسَلِّمْ بالأمرِ ولم يؤمن، لأنَّهُ لم يرغبْ في الحقّ، ولم يَتلمَّسْ طريقَ الهِداية. واللهُ لا يَهدي هؤلاءِ الذينَ يَظلِمونَ أنفسَهم، فيَختارونَ طريقَ الضلالِ والعِناد، على الرَّغمِ منْ وضوحِ الحُجَّةِ ضدَّهم.